فصل: فصل: (الجهالة في الوكالة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


كتاب الشهادات

أصل الشهادة الحضور، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الغنيمة لمن شهد الوقعة‏)‏ أي حضرها، ويقال‏:‏ فلان شهد الحرب وقضية كذا إذا حضرها، وقال‏:‏ إذا علموا أني شهدت وغابوا أي حضرت ولم يحضروا، والشهيد‏:‏ الذي حضره الوفاة في الغزو حتى لو مضى عليه وقت صلاة وهو حي لا يسمى شهيدا، لأن الوفاة لم تحضره في الغزو‏.‏ وفي الشرع‏:‏ الإخبار عن أمر حضره الشهود وشاهدوه، إما معاينة كالأفعال نحو القتل والزنا، أو سماعا كالعقود والإقرارات، فلا يجوز له أن يشهد إلا بما حضره وعلمه عيانا أو سماعا، ولهذا لا يجوز له أداء الشهادة حتى يذكر الحادثة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع‏)‏ وهي حجة مظهرة للحق مشروعة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ و

قال‏:‏ ‏(‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي‏)‏ والبينة‏:‏ الشهادة بالإجماع، ولأن فيها إحياء حقوق الناس، وصون العقود عن التجاحد، وحفظ الأموال على أربابها، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أكرموا شهودكم فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏من تعين لتحملها لا يسعه أن يمتنع إذا طولب‏)‏ لما فيه من تضييع الحقوق، وإن لم يتعين فهو مخير، ولا بأس بالتحرز عن التحمل ‏(‏فإذا تحملها وطلب لأدائها يفترض عليه‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏ ولأنه إضاعة لحقوق الناس فيحرم الامتناع‏.‏ ‏(‏إلا أن يقوم الحق بغيره‏)‏ بأن يكون في الصك سواه من يقوم الحق به فيجوز له الامتناع، لأن أحق لا يضيع بامتناعه، ولأنها فرض كفاية، ولا بد من طلب المدعي لأنها حقه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر‏)‏ لأن إقامة الحدود حسبة، والستر على المسلم حسبة ‏(‏والستر أفضل‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة‏)‏ وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقن ماعزا الرجوع وسأله عن حاله سترا عليه لئلا يرجم ويشتهر، وكفى به قدوة‏)‏ وكذلك نقل عن الخلفاء الراشدين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقول في السرقة‏:‏ أخذ المال‏)‏ إحياء لحق المسروق منه ‏(‏ولا يقول‏:‏ سرق‏)‏ إقامة لحسبة الستر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يقبل على الزنا إلا شهادة أربعة من الرجال‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ‏(‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام للذي قذف زوجته‏:‏ ‏(‏ائتني بأربعة يشهدون وإلا فضرب في ظهرك‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وباقي الحدود والقصاص شهادة رجلين‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏شاهداك أو يمينه‏)‏ ولا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص‏.‏ قال الزهري‏:‏ مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما سواهما من الحقوق تقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وأنه مذكور في سياق المداينات بالأجل فتقبل فيها‏.‏ وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ أجاز شهادة النساء في النكاح‏)‏ ولأنها من أهل الشهادة بالآية، فتقبل شهادتها لوجود المشاهدة والحفظ والأداء كالرجل، وزيادة النسيان تجبر بزيادة العدد وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ بقي شبهة البدلية، فلهذا قلنا لا تقبل في الحدود والقصاص وغيرها من الأحكام يثبت مع الشبهة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتقبل شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة وعيوب النساء‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال‏)‏ ولأنه لا بد من ثبوت هذه الأحكام ولا يمكن الرجال الاطلاع عليها وإنما يطلع عليها النساء على الانفراد فوجب قبول شهادتهن على الانفراد تحصيلا للمصلحة وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قبل شهادة امرأة واحدة في الولادة ولأن ما يقبل فيه قول النساء على الانفراد لا يعتبر فيه العدد كرواية الأخبار، والثنتان أحوط، والثلاث أحب إلى الله، وبالأربع يخرج عن الخلاف، وأحكام الشهادة في الولادة تعرف في الطلاق إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما البكارة فإن العنين يؤجل سنة ويفرّق بينهما بعدها إذا قلنا إنها بكر، وهل يشترط في ذلك لفظة الشهادة ‏؟‏ لا يشترط عند مشايخ العراق، ويشترط عند مشايخ خراسان، لأنها توجب حقا على الغير فكانت شهادة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتقبل شهادتهن في استهلال الصبي في حق الصلاة دون الإرث‏)‏ أما الصلاة فبالإجماع لأنها من أمور الدين، وأما الإرث فمذهبه‏.‏ وقالا‏:‏ تقبل أيضا لأن الاستهلال صوت يكون عقيب الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، فدعت الضرورة إلى قبول شهادتهن لما مرّ‏.‏ ولأبي حنيفة أن ذلك مما يطلع عليه الرجال لأنه يحل لهم سماع صوته، فلا ضرورة في حق ثبوت النسب والإرث والمهر، وكذا لا يقبل في الرضاع شهادة النساء منفردات، لأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال ملك النكاح، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة الرجال، ولأنه مما يمكن اطلاع الرجال عليه فلا ضرورة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد من العدالة ولفظة الشهادة والحرية والإسلام‏)‏ أما العدالة فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء ‏(‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ والفاسق ليس بمرضي، ولأن الحاكم يحكم بقول الشاهد وينفذه في حق الغير، فيجب أن يكون قوله يغلب على ظن الحاكم الصدق، ولا يكون ذلك إلا بالعدالة، إلا أن القاضي إذا قضى بشهادة الفاسق ينفذ عندنا‏.‏ وأما لفظة الشهادة فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ فإنه صريح في طلب الشهادة فيجب عليه الإتيان بلفظها، ولأن الشهادة من ألفاظ اليمين على ما يأتيك إن شاء الله تعالى في الأيمان، فيكون الامتناع عنها على تقدير الكذب أكثر، ولأن القياس ينفي قول الإنسان على الغير لما فيه من إلزامه، إلا أنا قبلناه في موضع ورد الشرع به، وأنه ورد مقرونا بالشهادة‏.‏ وأما الحرية فلأن الشهادة من باب الولاية، ولا ولاية للعبد على نفسه فكيف على غيره ‏؟‏‏.‏ وأما الإسلام فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 141‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقتصر في المسلم على ظاهر عدالته إلا في الحدود والقصاص، فإن طعن فيه الخصم سأل عنه‏.‏ وقالا‏:‏ يسأل عنهم في جميع الحقوق سرا وعلانية، وعليه الفتوى‏)‏ وجه قول أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف‏)‏ وفي كتاب عمر‏:‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا حقا أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة، ولأن العدالة هي الأصل لأنه ولد غير فاسق، والفسق أمر طارئ مظنون، فلا يجوز ترك الأصل بالظن، ولا يلزم الحدود والقصاص لأنه كما أن الأصل في الشاهد العدالة كذلك الأصل في المشهود عليه العدالة، والشاهد وصفه بالزنا والقتل فتقابل الأصلان فرجحنا بالعدالة الباطنة، ولأن الحدود مبناها على الإسقاط فيسأل عنهم احتيالا للدرء‏.‏ ولهما أن الحاكم يجب أن يحتاط في حكمه صيانة له عن النقض وذلك بسؤال السر والعلانية ‏(‏ولو اكتفى بالسر جاز‏)‏ قال أبو بكر الرازي‏:‏ لا خلاف بينهم في الحقيقة فإن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة فيه ظاهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام عدّل أهله‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب‏)‏ واكتفى بتعديل النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمنهما فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال، ولو كانا في زمنه ما سألا، ولو كان في زمنهما لسأل، فلهذا قلنا الفتوى على قولهما، ولقد تصفحت كثيرا من كتب أبي بكر الرازي فما رأيته رجح على قول أبي حنيفة قول غيره إلا في هذه المسألة، وإنما رجح قولهما لما رأى من فساد أهل الزمان، وقلة مبالاتهم بالأمور الدينية، وكان يقول‏:‏ ينبغي للحاكم أن ينقب عن أحوال الشهود في كل ستة أشهر، لأنه قد يطرأ على الشاهد في هذه المدة ما يخرجه عن أهلية الشهادة، والله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا بد أن يقول المزكي هو عدل جائز الشهادة‏)‏ لأن العبد عدل غير جائز الشهادة؛ وقيل يكتفي بقوله هو عدل، لأن الأصل هو الحرية تبعا للدار، وإن لم يكن عدلا عنده قال الله أعلم بحاله، وقد كانوا يكتفون بتزكية العلانية، ثم انضم إليها تزكية السر في زماننا لاختلاف الزمان، ثم قيل يكتفي بتزكية السر تحرزا عن الفتنة‏.‏ قال محمد‏:‏ تزكية العلانية بلاء وفتنة، ثم لا بد في تزكية العلانية أن يجمع بين المزكي والشاهد لتنتفي شبهة تعديل غيره، وتزكية السر أن يبعث رقعة مختومة إلى المزكي فيها اسم الشاهد ونسبه وحليته ومصلاه، ويردها المزكي كذلك سرا، وينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشهود أوثق الناس وأورعهم ديانة وأعظمهم أمانة وأكثرهم بالناس خبرة وأعلمهم بالتمييز، غير معروفين بين الناس لئلا يقصدوا بسوء أو يخدعوا، وينبغي للمزكي أن يسأل عن أحوال الشهود ويتعرفها من جيرانهم وأهل سوقهم، فإن ظهرت عدالتهم عنده كتب ذلك في آخر الرقعة‏:‏ هو عدل عندي جائز الشهادة، وإلا كتب إنه غير عدل وختم الرقعة وردها، فيقول القاضي للمدعي زد في شهودك ولا يقول جرحوا، ويقبل في تزكية السر قول الولد والوالد وكل ذي رحم والعبد والأعمى والمحدود في القذف لأنها أخبار، خلافا لمحمد فإنها شهادة عنده، بخلاف تزكية العلانية فإنها شهادة بالإجماع‏.‏ والشهود الكفار يعدلهم المسلمون، فإن لم يعرفهم المسلمون سأل المسلمين عن عدول المشركين، ثم يسأل أولئك عن الشهود‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تقبل تزكية المدعى عليه‏)‏ ومعناه أن يقول هم عدول إلا أنهم أخطؤوا أو نسوا، أما لو قال صدقوا أو هم عدول صدقة فقد اعترف بالحق فيقضي بإقراره لا بالبينة، لأن البينة عند الجحود؛ وقيل يجوز تعديله‏.‏ ووجه الظاهر أن المدعي والشهود يزعمونه كاذبا في إنكاره مبطلا في جحوده فلا يصلح مزكيا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتكفي تزكية الواحد‏)‏ وعن محمد اثنين وهو أولى، وكذلك المترجم ورسول القاضي إلى المزكين‏.‏ لمحمد أن حكم القاضي مبني على العدالة وذلك بالتزكية، فيشترط الإتيان كالشهادة، ويشترط عنده ذكورة المزكي في الحدود والأربعة في شهود الزنا لما بينا‏.‏ ولهما أنها ليست في معنى الشهادة حتى لا يشترط فيها لفظة الشهادة ومجلس الحكم، واشتراط العدد في الشهادة تعبدي فلا يتعداها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فيما تجوز به الشهادة‏]‏

‏(‏ويجوز أن يشهد بكل ما سمعه أو أبصره من الحقوق والعقود وإن لم يشهد عليه‏)‏ لأنه علم الموجب وتيقنه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏إن علمت مثل الشمس فاشهد‏)‏ ويقول أشهد بكذا لأنه علمه ولا يقول أشهدني فإنه كذب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا الشهادة على الشهادة فإنه لا يجوز أن يشهد على شهادة غيره ما لم يشهده‏)‏ لأن الشهادة ليست موجبة إلا بالنقل إلى مجلس الحكم ولا يكون ذلك إلا بالتحمل، ولو سمعه يشهد غيره على شهادته لا يسعه أن يشهد لأنه ما حمله وتجوز شهادة المختبئ، وهو أن يقر الرجل بحق والشهود مختبئون في بيت يسمعون إقراره، فإنه يحل لهم الشهادة إذا كانوا يرون وجهه ويعرفونه، وإن لم يروه لا يحل لهم إلا إذا علموا أن ليس في البيت غيره فيحل لهم ذلك، وكذا إذا سمعوا صوت امرأة من وراء حجاب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز له أن يشهد بما لم يعاينه إلا النسب والموت والدخول والنكاح وولاية القاضي وأصل الوقف‏)‏ والقياس أنه لا يجوز، لأن الشهادة من المشاهدة وهي المعاينة ولم توجد‏.‏ وجه الاستحسان أن هذه الأشياء تباشر بحضور جماعة مخصوصين وتتعلق بها أحكام مستمرة فأقيمت الشهرة والاستفاضة مقام العيان والمشاهدة كيلا تتعطل هذه الأحكام، وعلى هذا الناس من الصدر الأول إلى يومنا هذا، ألا ترى أنا نشهد أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك سائر زوجاته وفاطمة رضي الله عنها زوجة علي رضي الله عنه وغير ذلك، ونشهد بنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونشهد بقضاء شريح وابن أبي ليلى وأبي يوسف، ونشهد بموت الخلفاء الراشدين وغيرهم، والشهرة إنما تكون إما بالتواتر أو بأخبار من يثق به، حتى لو أخبره واحد يثق به جاز؛ واشترط بعضهم رجلين أو رجلا وامرأتين‏.‏ وقيل يكتفي في الموت بشهادة الواحد، لأنه قل ما يحضره غير الواحد، وإذا رأى رجلا يجلس للقضاء ويدخل عليه الخصوم حل له الشهادة بولايته؛ وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان في بيت واحد ويتعاشران معاشرة الأزواج حل له الشهادة بالنكاح بينهما كما إذا رأى عينا في يد رجل‏.‏ وأما الوقف فالصحيح ما ذكرنا أنه يجوز على أصله دون شرطه، لأن الأصل هو الذي يشتهر، فلو لم تجز الشهادة عليه أدى إلى استهلاك الأوقاف القديمة، وكذلك الولاء عند أبي يوسف كما في النسب، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الولاء لحمة كلحمة النسب‏)‏ ولأنا نشهد أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلالا مولى أبي بكر رضي الله عنه إلى غير ذلك، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن الخبر لا يشتهر لأنه مبني على الإعتاق وذلك يكون بحضرة من لا يشتهر غالبا وصار كالعتاق والطلاق، والمراد بالحديث أنه مثله لا يباع ولا يوهب، وينبغي للشاهد أن يطلق الشهادة عند القاضي حتى لو فسرها وقال إنه شهد بالتسامع لا يقبلها، وكذلك في الشهادة باليد لا يفسرها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز أن يشهد على الملك المطلق‏)‏ إذا رآه في يده ‏(‏فيما سوى العبد والأمة‏)‏ لأن اليد دليل الملك وهو المرجع في الأسباب كالبيع والهبة والوصية والإرث وغيرها‏.‏ واشترط أبو يوسف أن يقع في قلبه أنه له، ويجوز أن يكون تفسيرا للأول، واشترط الخصاف التصرف مع اليد فإن اليد تتنوع‏.‏ قلنا والتصرف أيضا يتنوع إلى أمانة وملك، وإنما يحل له ذلك إذا عاين الملك والمالك، أو عاين الملك وحده وعرف المالك بالاشتهار بنسبه‏.‏ أما إذا عاين المالك وحده لا يحل له، وهذا بخلاف العبد والأمة، لأن الحر يستخدم كما يستخدم العبد كالأجير الخاص ونحوه، فلا تكون اليد دليلا حتى يعلم أنه رقيق، فيجوز أن يشهد أنه له باليد، لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وكذلك إن كانا صغيرين لا يعبران عن أنفسهما يجوز أن يشهد، وإن لم يعرف رقهما لأنه لا يد لهما بخلاف الكبيرين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا رأى الشاهد خطه لا يشهد ما لم يذكر الحادثة‏)‏ وهكذا القاضي والراوي لأن الخط يشبه الخط فلا يحصل العلم، قالوا‏:‏ وهذا عند أبي حنيفة، وقيل هو إجماع؛ وإنما الخلاف إذا وجد القاضي القضية في ديوانه تحت ختمه، وكذا إذا رأى الشاهد رقم شهادته عنده تحت ختمه، وكذلك الراوي فيجوز عندهما، وإن لم يذكر الحادثة لوقوع الأمن من الزيادة والنقصان‏.‏ أما ما كان في الصك بيد الخصم وليس عنده نسخته لا يجوز لما بينا، وعند أبي حنيفة لا يجوز ما لم يذكر الحادثة، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع‏)‏ ولا علم مع النسيان، وشرط حل الرواية عنده أن يحفظ من حين سمع إلى أن يروي، ولهذا قلت رواية أبي حنيفة رضي الله عنه، وكذا إذا ذكر المجلس الذي كان فيه الحادثة أو أخبره بها من يثق به لا يحل له ما لم يذكرها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وشاهد الزور يشهر ولا يعزر‏)‏ وقالا‏:‏ يوجعه ضربا ويحبسه لما روي أن عمر رضي الله عنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، ولأنها إضرار بالناس وليس فيها حد فيعزره‏.‏ ولأبي حنيفة أن الزجر يحصل بالتشهير، والضرب وإن كان أزجر لكنه يمنع من الرجوع، وفعل عمر رضي الله عنه كان سياسة ولهذا بلغ الأربعين وسخم‏.‏ والتشهير‏:‏ أن يبعثه القاضي إلى أهله أو سوقه أجمع ما يكونون ويقول‏:‏ القاضي يقرئكم السلام ويقول‏:‏ إنا وجدنا هذه شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس، منقول ذلك عن شريح‏.‏ وعنهما أنه يفعل ذلك مع الضرب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتعتبر موافقة الشهادة الدعوى‏)‏ لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد الدعوى، فإن لم توافقها فقد انعدمت ‏(‏ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى، فلو شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل‏)‏ وقالا‏:‏ تقبل على الألف إذا ادعى المدعي ألفين لأنهما اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بزيادة فيثبت ما اتفقا عليه، كما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة، فإنه يقضي بالألف، كذا هذا، وعلى هذا الطلقة والطلقتين‏.‏ ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وجد الاختلاف لفظا، وأنه دليل الاختلاف معنى، لأن معنى الألف غير معنى الألفين، وهما جملتان متغايرتان حصل على كل واحدة شاهد واحد فلا يقبل كاختلاف الجنس بخلاف ما ذكرا، لأنهما اتفقا على الألف لفظا ومعنى، لأنه عطف الخمسمائة على الألف، والعطف يقرر المعطوف عليه، ومثله الطلقة والطلقة والنصف بخلاف العشرة والخمسة عشر، لأنه ليس بعطف فهو نظير الألف والألفين والعشرون، والخمس والعشرون نظير الألف والألف والخمسمائة، ولو كان المدعي ادعى الأقل لا تقبل الشهادة في المسائل كلها لأنه يكذب أحد شاهديه، ولو قال‏:‏ كان حقي ألفا وخسمائة فقبضت خمسمائة أو أبرأته عنها قبل للتوفيق، وإن شهدا بألف فقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قضى بالألف لاتفاقهما عليها، ولا يثبت القضاء لأنها شهادة واحدة، فلو شهد آخر يثبت، وينبغي للشاهد إذا علم ذلك أن لا يشهد بالألف حتى يعترف المدعي بالقبض ليظهر الحق ولا يعين على الظلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو شهدا على سرقة بقرة واختلفا في لونها قطع، وإن اختلفا في الأنوثة والذكورة لم يقطع‏)‏ وقالا‏:‏ لا يقطع فيهما إن المشهود به مختلف، ولم يقم على كل واحد شاهدان وصار كالمسألة الثانية‏.‏ وله أن اشتمال البقرة على اللونين جائز، فيشهد كل واحد على ما رأى في جانبه وهي حالة اشتباه لأن السرقة تكون ليلا، والعمل بالبينة واجب ما أمكن فتقبل، بخلاف الذكورة والأنوثة لأنهما لا يجتمعان في بقرة فكانا متغايرين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏شهدا بقتل زيد يوم النحر بمكة، وآخران بقتله يوم النحر بالكوفة ردتا‏)‏ لأن إحداهما كاذبة بيقين ولا تدري، وليست إحداهما أولى من الأخرى بالرد ولا بالقبول فيردان ‏(‏فإن سبقت إحداهما وقضي بها بطلت الأخرى‏)‏ لأن الأولى ترجحت بالقضاء فلا تنقض بما هو دونها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في زوال موانع قبول الشهادة‏]‏

كل من ردت شهادته للرق أو الكفر أو للصبا ثم زالت هذه الموانع فأداها قبلت، ولو ردت لفسق أو زوجية أو العبد لمولاه أو المولى لعبده ثم زالت فأداها لم تقبل‏.‏ والفرق أن الأولى ليست بشهادة لعدم الأهلية فلم يكن الرد تكذيبا شرعا، والثانية شهادة لقيام الأهلية فكان تكذيبا فلا تقبل أبدا، ولو تحملها العبد لمولاه أو أحد الزوجين للآخر فآداها بعد العتق والبينونة قبلت، وكذلك إن تحملها وهو عبد أو كافر أو صبي فأداها بعد زوال هذه العوارض قبلت لأن المعتبر حالة الأداء لما يأتي ولا مانع حالتئذ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تقبل شهادة الأعمى‏)‏ وقال زفر‏:‏ تقبل فيما يجري فيه التسامع لأنه يسمع‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان بصيرا وقت التحمل تقبل لوجود العلم بالنظر، وعند الأداء يحتاج إلى القول وهو قادر عليه ويعرفه بالنسبة كما في الميت‏.‏ ولنا أنه لا يقدر على التمييز بين الأشخاص ولا على الإشارة، والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر ولو عمي بعد الأداء قبل القضاء لا يقضي بها عندهما‏.‏ لأن أهلية الشهادة شرط وقت القضاء ليصير حجة، كما إذا جنّ أو فسق، بخلاف الموت فإنه منه للأهلية والغيبة لا تفوت بها الأهلية، ولا تقبل شهادة الأخرس، لأن الشهادة بالنطق وهو عاجز عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا المحدود في قذف وإن تاب‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ ولأنه من تمام الحد لأنه مانع فيبقى بعد التوبة‏.‏ أما المحدود في غير القذف فالرد ليس من الحد وإنما هو للفسق، وقد ارتفع بالتوبة والاستثناء في الآية منقطع أو هو مصروف إلى الأقرب وهو الفسق‏.‏ ‏(‏ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم قبلت شهادته‏)‏ لأن بالإسلام حدثت له شهادة أخرى غير التي كانت قبله، فلا يكون الحد في إسقاط الأولى إسقاطا في الثانية، لأنها لم تكن موجودة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تقبل الشهادة للولد وإن سفل، ولا للوالد وإن علا‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ولا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا السيد لعبده، ولا الشريك لشريكه، ولا الأجير لمن استأجره‏)‏ روي ذلك بأحاديث مختلفة بهذه الألفاظ ولأن المنافع بينهم متصلة حتى لا يجوز دفع الزكاة إليهم فيكون شهادة لنفسه من وجوه ومحرمية الرضاع لا تمنع قبول الشهادة لأنه لا جزئية بينهما فانتفت التهمة، وتقبل شهادة القرابات كالأخ والعم والخال وما سوى قرابة الولاد لعدم ما ذكرنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا لعبده‏)‏ لما روينا، ولأن العبد لا يملك فتقع الشهادة لنفسه ‏(‏ولا لمكاتبه‏)‏ لأن أكسابه له من وجه والعبد المديون كالمكاتب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا للزوج والزوجة‏)‏ لما روينا، ولأن المنافع بينهما متصلة عادة فتقع لنفسه من وجه ‏(‏ولا أحد الشريكين للآخر فيما هو من شركتهما‏)‏ لما روينا لأنها تقع لنفسه ‏(‏ولا شهادة الأجير الخاص‏)‏ لما روينا، ولأنه يستحق الأجرة في مدة أداء الشهادة، فصار كالمستأجر لأداء الشهادة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تقبل شهادة مخنث ولا نائحة، ولا من يغني للناس‏)‏ لأن ذلك فسق لأنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ نهى عن صوتين أحمقين‏:‏ النائحة، والمغنية‏)‏ والمراد المخنث الذي يفعل الأفعال الرديئة، وأنه معصية‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لعن الله المؤنثات من الرجال، والمذكرات من النساء‏)‏ أما اللين في الكلام خلقة فتقبل شهادته‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا مدمن الشرب على اللهو‏)‏ لأنه محرم‏.‏ قال محمد‏:‏ من شرب النبيذ متأولا قبلت شهادته ما لم يسكر أو يكن على اللهو‏.‏ ‏(‏ولا من يلعب بالطيور‏)‏ لأنه يوجب غفلة ويطلع على العورات بالطلوع على السطوحات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا من يفعل كبيرة توجب الحد‏)‏ لفسقه ‏(‏ولا من يأكل الربا‏)‏ لأنه حرام، وشرط بعضهم الإدمان عليه لأنه قل ما يخلو عن العقد الفاسد ‏(‏ولا من يقامر بالشطرنج‏)‏ لأنه حرام‏.‏ أما نفس اللعب لا يسقط العدالة لمكان الاجتهاد إلا أن تفوته الصلاة أو يحلف عليه كذبا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا من يدخل الحمام بغير إزار‏)‏ لفسقه بإبداء عورته ‏(‏ولا من يفعل شيئا من الأفعال المستخفة كالبول والأكل على الطريق‏)‏ لأنه يسقط المروءة فلا يتحاشى عن الكذب، وكذا من يمشي في السوق بالسراويل وحده، وكذلك المناهدة مع الابن في السفر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا من يظهر سب السلف‏)‏ لفسقه بخلاف من يكتمه، ولا الشتام للناس والجيران‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ لا أجيز شهادة من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك فعل الأسقاط وأوضاع الناس، وأقبل شهادة الذين تبرؤوا منهم لأنه يفعل ذلك تدينا وإن كان باطلا‏.‏ ‏(‏ولا شهادة العدو إن كانت العداوة بسبب الدنيا‏)‏ لأنه لا يؤمن عليه الكذب ‏(‏وتقبل إن كانت بسبب الدين‏)‏ لأنه لا يكذب لدينه كأهل الأهواء، ولا تقبل شهادة تارك الجمع والجماعات مجانة، واشترط بعضهم لذلك ترك الجمعة ثلاث مرات، وقال الخصاف مرة‏.‏ وإن تركها لعذر مرض أو بعد من المصر أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام لا ترد شهادته ولا تقبل شهادة من يجلس مجالس الفجور‏.‏ قال محمد‏:‏ العدل الذي لم يظهر ريبة‏.‏ قال محمد‏:‏ موسر أخرّ الزكاة والحج إن كان صالحا قبلت شهادته لأنهما لا وقت لهما، وما كان له وقت كالصوم والصلاة ترد شهادته بالتأخير‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ أقبل شهادة الشاعر ما لم يقذف في شعره المحصنات، وقال العدلا‏:‏ هو الذي غلبت حسناته على سيئاته، ولا يمكن اشتراط السلامة عن كل مأثم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ وهذا يدل على أن العبد قل ما يسلم عن ذلك ولا تقبل شهادة النخاسين والدلالين لأنهم يكذبون، وتقبل شهادة أهل جميع الصنائع كلها إذا كانوا عدولا إلا إذا كان يجري بينهم الحلف والأيمان الفاجرة‏.‏ ومن يجن ويفيق فشهادته جائزة حال إفاقته، وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم قوم من الرافضة يستجيرون بالشهادة لكل من يحلف عندهم، لأنهم يرون حرمة الكذب، وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة، ولا تقبل شهادة المجسمة لأنهم كفرة، ومن لا يكفر من أهل الأهواء تقبل شهادتهم‏.‏ ألا يرى أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا واقتتلوا، وشهادة بعضهم على بعض كانت مقبولة، وليس ما بين أهل الأهواء من الاختلاف أكثر ما كان بينهم من القتال، بخلاف الفاسق عملا لأنه ارتكب محظور دينه فيرتكب الكذب، وهذا يعتقد ما يفعله حقا يدين به الله تعالى فيمتنع عن الكذب‏.‏ ‏(‏قال‏:‏ وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض‏)‏ لأن الشهادة من باب الولاية، وهم أهل الولاية بعضهم على بعض، ولهذا قلنا لا تقبل شهادتهم على المسلم لعدم ولايتهم عليه وفسقه من حيث الإعتقاد فلا يمنع قبول الشهادة لأنه يجتنب محرم دينه، والكذب محرم في جميع الأديان‏.‏ وعن يحيى بن أكثم قال‏:‏ اجتمعت أقاويل السلف على قبول شهادة النصارى بعضهم على بعض، فلم أجد أحدا رد شهادتهم غير ربيعة بن عبد الرحمن، فإني وجدت عنه روايتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين بشهادة اليهود؛ ومللهم وإن اختلفت فهم متفقون في الكفر بالله تعالى وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ويجمعهم دار واحدة، بخلاف عدم قبول شهادة الروم على الهند وبالعكس لانقطاع الولاية باختلاف الدارين وبخلاف المرتد لأنه لا ولاية له على أحد ‏(‏ولا تقبل شهادة المستأمن على الذمي‏)‏ لعدم الولاية ‏(‏وتقبل شهادة الذمي عليه‏)‏ لأن ولايته ثابتة في دارنا على نفسه وأولاده الصغار فتكون ثابتة في جنسه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتقبل شهادة الأقلف‏)‏ لأن ترك السنة لا يوجب الفسق إلا إذا تركه رغبة عن

السنة، ولو تركه بعدما كبر لا يفسق لأنه تركه صيانة لمهجته لا رغبة عن السنة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والخصي‏)‏ لأنه قطع عضو منه فصار كغيره من الأعضاء، وعمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والخنثى‏)‏ لأنه إما رجل أو امرأة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وولد الزنا‏)‏ لأن فسق الأبوين لا يوجب فسقه ككفرهما وإسلامه، إذ الكلام في العدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمعتبر حال الشاهد وقت الأداء لا وقت التحمل‏)‏ لأن العمل بها والإلزام حالة الأداء فتعتبر الأهلية والولاية عنده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا كانت الحسنات أكثر من السيئات قبلت الشهادة‏)‏ لما مر، ولا بد من اجتناب الكبائر أجمع غير مصر على الصغائر، ويكون صلاحه أكثر من فساده، معتاد الصدق، مجتنبا الكذب، يخاف هتك الستر، صحيح المعاملة، في الدينار والدرهم، مؤديا للأمانة، قليل اللهو والهذيان‏.‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا يغرنكم طنطنة الرجل في صلاته، وانظروا إلى حاله عند درهمه وديناره‏.‏ أما الإلمام بمعصيته لا يمنع قبول الشهادة، لما في اعتبار ذلك من سد باب الشهادة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في تقديم الجرح على التعديل‏]‏

اعلم أن الجرح مقدم على التعديل، لأن الجارح اعتمد دليلا وهو العيان لارتكابه محظور دينه، والمعدل شهد بالظاهر ولم يعتمد على دليل، ولو عدله واحد وجرحه آخر فالجرح أولى، فإن عدله آخر فالتعديل أولى لأنه حجة كاملة، ولو عدله جماعة وجرحه اثنان فالجرح أولى لاستوائهما في الثبوت، لأن زيادة العدد لا توجب الترجيح، ولا يسمع القاضي الشهادة على الجرح قصدا ولا يحكم بها لأن الحكم للإلزام وأنه يرتفع بالتوبة، ولأن فيه هتكه والستر واجب، ولو شهدوا على إقرار المدعي بذلك سمعها، لأن الإقرار يدخل تحت الحكم، ويظهر أثره في حق المدعي، ولو أقام المدعى عليه بينة أن المدعي استأجر الشهود لأداء الشهادة لا تقبل، لأنها على الجرح خاصة، إذ لا خصم في إثبات الإجارة حتى لو قال استأجرهم بدراهم ودفعها إليهم من مالي الذي في يده قبلت لأنه خصم، ثم يثبت الجرح بناء عليه، وكذلك لو قال‏:‏ صالحتهم على مال دفعته إليهم لئلا يشهدوا بهذا الباطل وطالبهم برد ذلك المال وأقام البينة على ذلك لما قلنا، ولو قال‏:‏ لم أسلم المال إليهم لم تقبل، ولو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو سارق أو شريك المدعي أو أجيره ونحو ذلك قبلت، لأن ذلك مما يدخل تحت الحكم لأنه يتضمن حق الشرع وهو الحدود أو حق العبد‏.‏

قال الخصاف‏:‏ وأسباب الجرح كثيرة‏:‏ منها الركوب في البحر، والتجارة إلى أرض الكفار، وفي قرى فارس وأشباهه، لأنه خاطر بدينه ونفسه حيث سكن دار الحرب وكثر سوادهم لينال بذلك مالا فلا يؤمن أن يكذب بأخذ المال وقرى فارس يطعمونهم الربا وهم لا يعلمون‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الشهادة على الشهادة‏]‏

‏(‏تجوز الشهادة على الشهادة فيما لا يسقط بالشبهة‏)‏ والأصل في جوازها إجماع الأمة على ذلك واحتياج الناس إلى إحياء الحقوق بذلك لأنه قد يعجز عن الأداء لمرض أو موت أو سفر، فلولا ذلك لبطل حقوق الناس، وتجوز الشهادة على الشهادة وإن بعد للحاجة على ما بينا‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه تقبل في الشهادة على الشهادة شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولأنه نقل خبر يثبت به حق المدعي فيجوز كالشهادة على الإقرار، وإنما لم تجز في الحدود والقصاص لأن مبناهما على الإسقاط والدرء، وفي ذلك احتيال للثبوت ولأن فيها شبهة لزيادة احتمال الكذب أو البدلية، والحدود تسقط بالشبهات، وتقبل على استيفاء الحدود لأن الاستيفاء لا يسقط بالشبهة، وما يوجب التعزير عن أبي حنيفة أنه لا يقبل كسائر العقوبات، وعن أبي يوسف أنه يقبل، لأن التعزير لا يسقط بالشبهة، لما روى‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ حبس رجلا بالتهمة‏)‏ والحبس تعزير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تجوز شهادة واحد على شهادة واحد‏)‏ لأنه حق فلا بد من النصاب‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز شهادة رجلين على شهادة رجلين‏)‏ لما روينا من حديث علي رضي الله عنه أولا، ولأن شهادة كل أصل حق فصار كما إذا شهدا بحقين ‏(‏وصفة الإشهاد أن يقول الأصل‏:‏ أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلانا أقر عندي بكذا‏)‏ لأن الفرع ينقل شهادة الأصل، فلا بد من التحميل لما بينا، فيشهد كما يشهد عند القاضي لينقلها إليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقول الفرع عند الأداء‏:‏ أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا، وقال لي‏:‏ أشهد على شهادتي بذلك‏)‏ لأنه لا بد من ذكر شهادته وذكر شهادة الأصل والتحميل وذلك بما ذكرنا، وذكر الخصاف أنه يحتاج إلى أن يأتي بلفظ الشهادة ثمان مرات، وهو أن يقول‏:‏ أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته وهو يشهد أن فلانا أقر عنده بكذا وأشهده على إقراره، وقال لي‏:‏ اشهد على شهادتي وأنا أشهد بذلك‏.‏ ومن أصحابنا من اكتفى بخمس وهو ما ذكرنا أولا‏.‏ ومنهم من قال أربع وهو أن يقول‏:‏ أشهد أن فلانا أشهدني، وقال لي‏:‏ اشهد على شهادتي‏.‏ ومنهم من قال ثلاث مرات، وهو أقل ما قيل فيه وهو أن يقول‏:‏ أشهد أن فلانا قال لي‏:‏ اشهد على شهادتي، أو أشهد أن فلانا أشهدني على شهادتي‏.‏ والأحسن ما ذكر في الكتاب، والأحوط ما ذكره الخصاف، لأن فيه تحرزا عن اختلاف كبير بين العلماء يصغر كتابنا عن استيعابه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تقبل شهادة الفروع إلا إذا تعذر حضور الأصول مجلس الحكم‏)‏ وقال أبو يوسف تقبل لأنهم بمنزلة المرأتين مع الرجل الثاني نظرا إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وأجمعنا على جواز شهادة المرأتين مع وجود الرجل الثاني فكذلك هذا‏.‏ وجه الظاهر أن الأصل عدم الجواز، وإنما جوزناها لما ذكرنا من الحاجة، ولا حاجة مع حضرة الأصول، ولأن الفروع أبدال، ولا حكم للبلد مع وجود الأصل كما في النظائر، وشهادة المرأتين ليست بدلية لأن الآية خطاب للحكام، كأنه قال لهم فاطلبوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكن وجاء رجل وامرأتان ترضونهم فاقبلوا شهادتهم‏.‏ والعذر موت أو مرض أو سفر، لأن الحاجة عند تعذر شهادة الأصول وذلك فيما ذكرنا‏.‏ أما الموت فظاهر وأما المرض فالمراد به مرض لا يستطيع معه حضور مجلس القضاء‏.‏ وأما السفر فمقدر بمدة السفر، لأن بعد المسافة عذر، والشرع قد اعتبر ذلك المدة حتى رتب عليها كثيرا من الأحكام‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن أمكنه أن يحضر مجلس القضاء ويعود إلى أهله في يومه فليس بعذر، وإن لم يمكنه ذلك فهو عذر، لأن البيتوتة، في غير أهله مشقة‏.‏ قال أبو الليث‏:‏ وبه نأخذ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن عدلهم شهود الفرع جاز‏)‏ لأنهم من أهل التزكية، ومثله لو شهد اثنان فزكى أحدهما الآخر جاز، ولا يكون ذلك تهمة في حقه حيث إنه سبب قبول قوله فإن العدل لا يتهم بمثله‏.‏ ألا ترى أنه لا يتهم في إقامة شهادته ‏؟‏ ‏(‏وإن سكتوا عنهم جاز‏)‏ ويسأل القاضي عنهم عند أبي يوسف، لأن الواجب عليهم النقل دون التعديل، فإذا نقلوها يتعرف القاضي العدالة من غيرهم‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا تقبل، لأن الشهادة تعتمد العدالة فإذا سكتوا صاروا شاكين فيما شهدوا به فلا تقبل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الفروع‏)‏ لأن من شرطها التحميل وقد وقع التعارض فيه فلا يثبت بالشك؛ ولو ارتدا شاهدا الأصل ثم أسلما، لم تقبل شهادة الفروع، لأن بالردة بطل الإشهاد؛ ولو ردت شهادة الفروع لتهمة في الأصول، ثم تاب الأصول لم تقبل شهادة الأصول ولا الفروع، لأن الفروع نقلوا شهادة الأصول، فالمردود شهادة الأصول؛ ويجوز شهادة الابن على شهادة الأب، لأنه لا منفعة لابنه في ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والتعريف يتم بذكر الجد أو الفخذ‏)‏ لأن التعريف لا بد منه ولا يحصل إلا بما ذكرنا، لأن النسبة إلى القبيلة كبني تميم لا يحصل به التعريف لأنهم لا يحصون فلا بد من التعريف بالفخذ وهي القبيلة الخاصة، وكذا ذكر الأب، لأن كثيرا ما يقع الاشتراك في اسم الإنسان واسم أبيه‏.‏ أما الاشتراك مع ذلك في اسم الجد فنادر فحصل به التعريف ‏(‏والنسبة إلى المصر والمحلة الكبيرة عامة‏)‏ لأنهم لا يحصون ‏(‏وإلى السكة الصغيرة خاصة‏)‏‏.‏

باب الرجوع عن الشهادة

الأصل فيه قول عمر رضي الله عنه في كتاب القاضي‏:‏ فلا يمنعك قضاء قضيته وراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه إلى الحق، فإن الحق قديم لا يبطل، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، فكذلك الشاهد لأن المعنى يجمعهما، لأن الرجوع عن الشهادة الباطلة رجوع من الباطل إلى الحق، والرجوع قوله شهدت بزور وما أشبهه، وأصل آخر أن الشاهد بشهادته تسبب إلى إتلاف المال على المشهود عليه بإخراجه من ملكه يدا وتصرفا، فإن أزاله بغير عوض ضمن الجميع، وإن كان بعوض إن كان مثلا له لا ضمان عليه، وإن كان أقل منه ضمن النقصان، والقاضي ملجأ إلى القضاء من جهة الشهود فلا يضاف الإتلاف إليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يصح إلا في مجلس الحكم‏)‏ لأنه يحتاج فيه إلى حكم الحاكم بمقتضى الرجوع، فلا بد من مجلس القاضي كما في الشهادة، ولأنه توبة والشهادة جناية، فيشترط استواؤها في الجهر والإخفاء؛ ولو أقام المشهود عليه البينة أنهما رجعا لم تقبل ولا يحلفان، فإن قال رجعت عند قاض آخر كان هذا رجوعا مبتدأ عند القاضي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن رجعوا قبل الحكم بها سقطت‏)‏ لأن الحق لا يثبت إلا بالقضاء والقضاء بالشهادة وقد تناقضت‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وبعده لم يفسخ الحكم‏)‏ لأن الشهادة والرجوع عنها سواء في احتمال الصدق والكذب، إلا أن الأول ترجح بالقضاء فلا ينقض بالثاني‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وضمنوا ما أتلفوه بشهادتهم‏)‏ لإقرارهما بسبب الضمان على ما بيناه، فلو شهد أنه قضاه دينه أو أبرأه منه فقضى به ثم رجعا ضمنا لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن شهدا بمال فقضي به وأخذه المدعي ثم رجعا ضمناه للمشهود عليه‏)‏ لوجود التسبب على وجه التعدي، وأنه موجب للضمان كحافر البئر، ولا وجه إلى تضمين المدعي لأن الحكم ماض، ولا يضمن القاضي لما بينا، ولأن في تضمينه منع الناس عن تقلد القضاء خوفا من الضمان، ولو شهدا بعين ثم رجعا ضمنا قيمتها أقبضها المشهود له، أو لم يقبضها لأنه ملكها بمجرد القضاء، والدين لا يملكه إلا بالقبض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن رجع أحدهما ضمن النصف والعبرة في الرجوع لمن بقي لا لمن رجع‏)‏ ألا يرى أنه إذا بقي من يقوم به الحق لا اعتبار برجوع من رجع، وقد بقي هنا من يقوم بشهادته نصف الحق، فيضمن الراجع النصف لأنه أتلفه ‏(‏فلو كانوا ثلاثة فرجع واحد فلا شيء عليه‏)‏ لبقاء من يبقى بشهادته جميع الحق ‏(‏فإن رجع آخر ضمنا النصف‏)‏ لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت واحدة فعليها ربع المال، وإن رجعتا ضمنتا نصفه، ولو شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا، فعلى السدس وعليهن خمسة أسداسه‏)‏ وقالا‏:‏ عليه النصف وعليهن النصف، لأن النساء وإن كثرن فهن مقام رجل واحد، لأنه لا يثبت بهن إلا نصف الحق‏.‏ ولأبي حنيفة رضي الله عنه‏:‏ أن كل امرأتين مقام رجل قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عدلت شهادة كل اثنتين بشهادة رجل واحد‏)‏ فصار كشهادة ستة من الرجال، ولو رجع النساء كلهن فعليهن النصف لما قلنا، ولو رجع ثمان لا شيء عليهن، ولو رجعت أخرى فعلى الراجعات الربع لما مر، ولو رجع الرجل وثمان نسوة فعلى الرجل نصف الحق ولا شيء على الراجعات لأنه بقي منهن من يقوم به نصف الحق‏.‏ ‏(‏ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا فالضمان على الرجلين خاصة‏)‏ لأن الحق ثبت بهما دونهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏شهدا بنكاح بأقل من مهر المثل ثم رجعا لا ضمان عليهما‏)‏ لأن المنافع غير متقومة إلا بالتمليك بالعقد، والضمان يستدعي المماثلة، وإنما يتقوم بالتمليك إظهارا لخطر المحل ‏(‏وإن كان بأكثر من مهر المثل ضمنا الزيادة للزوج‏)‏ لأنهما أتلفاها بغير عوض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وفي الطلاق إن كان قبل الدخول ضمنا نصف المهر‏)‏ لأنهما أكدا ما كان على شرف السقوط ‏(‏وإن كان بعده لم يضمنا‏)‏ لأن المهر تأكد بالدخول فلم يتلفا شيئا‏.‏ شهدا بالطلاق وآخران أنه دخل بها ثم رجعوا ضمن شهود الدخول ثلاثة أرباع المهر وشهود الطلاق ربعه، لأن الفريقين اتفقا على النصف، فيكون على كل فريق ربعه، وانفرد شهود الدخول بالنصف فينفردون بضمانه، وفي الشهادة بالعتق يضمنان القيمة لأنهما أتلفا مالية العبد من غير عوض والولاء له، لأن العتق لم يتحول إليهما فلا يتحول الولاء، ولو شهدا بالبيع ثم رجع ضمنا القيمة لا الثمن، لأنهما أتلفا المبيع لا الثمن؛ ولو شهدا ببيع عبد ثم رجعا بعد القضاء وقيمة العبد أكثر من الثمن ضمنا الفضل، ولو شهدا بالتدبير ثم رجعا ضمنا ما نقصه التدبير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية‏)‏ ولا قصاص عليهم لأنه لم يوجد القتل مباشرة، والتسبيب لا يوجب القصاص كحافر البئر، بخلاف الإكراه لأن المكره فيه مضطر إلى ذلك فإنه يؤثر حياته، ولا كذلك الولي فإنه مختار والاختيار يقطع التسبيب، وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، لأن القتل بغير حق لا يخلو عن أحد الموجبين، ولو شهدا بالعفو عن القصاص ثم رجعا لم يضمنا، لأن القصاص ليس بمال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا‏)‏ لأن التلف أضيف إليهم فإنهم الذين ألجؤوا القاضي إلى الحكم ‏(‏وإن رجع شهود الأصل وقالوا‏:‏ لم نشهد شهود الفرع لم يضمنوا‏)‏ لأنهم أنكروا التسبيب وهو الإشهاد، والقضاء ماض لأنه خبر محتمل؛ ولو قالوا‏:‏ أشهدناهم وغلطنا فلا ضمان عليهم‏.‏ وقال محمد‏:‏ يضمنون لأن الفروع نقلوا شهادتهم فصاروا كأنهم حضروا‏.‏ ولهما أن القضاء وقع بما عاينه من الحجة وهي شهادة الفروع فيضاف إليهم، ولو رجع الأصول والفروع جميعا فالضمان على الفروع عندهما لما بينا‏.‏ وعند محمد إن شاء ضمن الأصول لما مر، وإن شاء ضمن الفروع لما مر لهما، والجهتان متغايرتان فلا يجمع بينهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا ضمان على شهود الإحصان‏)‏ لأن الإحصان شرط محض، والحكم يضاف إلى العلة لا إلى الشرط‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن رجع شهود اليمين وشهود الشرط فالضمان على شهود اليمين‏)‏ لأن السبب هو اليمين، والتلف مضاف إلى من أثبت السبب دون الشرط، فإن القاضي يقضي بشهادة شهود اليمين دون شهود الشرط‏.‏ وصورة المسألة‏:‏ شهد شاهدان أنه علق عتق عبده أو طلاق امرأته بدخول الدار، وشهد شاهدان بالدخول والطلاق قبل الدخول تجب قيمة العبد ونصف المهر على شهود التعليق لأنه السبب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا رجع المزكون ضمنوا‏)‏ وقالا‏:‏ لا يضمنون لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصاروا كشهود الإحصان‏.‏ وله أن القاضي إنما يعمل بالشهادة بالتزكية، فهي علة العلة فيضاف الحكم إليها، بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض، والله أعلم بالصواب‏.‏

كتاب الوكالة

وهي عبارة عن التفويض والاعتماد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ أي من اعتمد عليه وفوض أمره إليه كفاه، ورجل وكل إذا كان قليل البطش ضعيف الحركة يكل أمره إلى غيره فيما ينبغي أن يباشره بنفسه؛ وقيل الوكالة في اللغة‏:‏ الحفظ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ أي نعم الحافظ‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ إذا قال وكلتك في كذا فهو وكيل في حفظه بقضية اللفظ، ولا يثبت ما زاد عليه إلا بلفظ آخر، وأنه قريب من الأول، فإن من اعتمد على إنسان في شيء وفوض فيه أمره إليه كان آمرا بحفظه، لأنه إنما فعل ذلك لينظر ما هو الأصلح له، وأصلح الأشياء حفظ الأصل، لأن التصرفات تبتني عليه، وهذه المعاني موجودة في الوكالة الشرعية، فإن الموكل فوض أمره إلى الوكيل واعتمد عليه ووثق برأيه ليتصرف له التصرف الأحسن، وكل ذلك يبتني على الحفظ وهو مشروع بالكتاب، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ وبالسنة، وهو ما صح أنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ وكّل بالشراء عروة البارقي، وفي رواية أخرى‏:‏ حكيم بن حزام، ووكل في النكاح أيضا عمرو بن أمية الضمري، وعليه

تعامل الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا من غير نكير، ولأن الإنسان قد يعجز عن مباشرة بعض الأفعال بنفسه فيحتاج إلى التوكيل، فوجب أن يشرع دفعا للحاجة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تصح حتى يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام، والوكيل ممن يعقل العقد ويقصده‏)‏ لأن التوكيل استنابة واستعانة، والوكيل يملك التصرف بتمليك الموكل، وتلزمه الأحكام، فوجب أن يكون الموكل مالكا لذلك ليصح تمليكه، والوكيل يقوم مقام الموكل في الإيجاب والقبول، فلا بد أن يكون من أهلهما، فلو وكل صبيا لا يعقل أو مجنونا فهو باطل، ولو وكل صبيا عاقلا مأذونا أو عبدا مأذونا أو محجورا بإذن مولاه جاز، وكذلك إذا وكّل المسلم ذميا أو بالعكس أو حربيا مستأمنا لما ذكرنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكّل عقد جاز أن يعقده بنفسه جاز أن يوكل به‏)‏ لما ذكرنا من الحاجة، ‏(‏فيجوز بالخصومة في جميع الحقوق وإيفائها واستيفائها‏)‏ لما ذكرنا من الحاجة لأنه لا يعرف ذلك كل أحد، والدليل عليه الحديث المشهور‏)‏ ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‏)‏ وعلي رضي الله عنه وكّل أخاه عقيلا وابن أخيه عبد الله بن جعفر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا الحدود والقصاص فإنه لا يجوز استيفاؤها مع غيبة الموكل‏)‏ لأن احتمال العفو ثابت للندب إليه وللشفقة على الجنس، وأنه شبهة وأنها تندرئ بالشبهات بخلاف ما إذا حضر لانتفاء هذا الاحتمال‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا يجوز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص لأنها نيابة، فيتحرز عنها في هذا الباب كالشهادة على الشهادة‏.‏ ولأبي حنيفة رحمه الله أن الجناية سبب الوجوب والظهور يضاف إلى الشهادة، والخصومة شرط، فيجوز التوكيل به كسائر الحقوق، بخلاف الاستيفاء على ما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز بالخصومة إلا برضاء الخصم، إلا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا‏)‏ وقالا‏:‏ يجوز بغير رضاه، ومعناه‏:‏ أنه لا يجب على الخصم إلا الوكيل عنده وعندهما يجب، لما روي أن عليا رضي الله عنه وكّل بالخصومة مطلقا، ولأنه توكيل بحق فيجوز كالتوكيل باستيفاء الدين‏.‏ ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يا علي لا تقض لأحد الخصمين حتى يحضر الآخر‏)‏ وفي رواية ‏(‏حتى تسمع كلام الآخر‏)‏ فيشترط حضوره أو استماع كلامه، ولأن الخصومة تلزم المطلوب حتى يجب عليه الحضور والجواب، فلا يجوز أن يحيله على غيره بغير رضاه كالدين، ولأن الناس يتفاوتون في الخصومة، فلعل الوكيل يكون أشد خصاما وأكثر احتجاجا فيتضرر الخصم بذلك فلا يلزمه إلا برضاه، بخلاف المريض العاجز عن الخصومة، فإنه لا يستحق عليه الحضور، وكذلك المسافر، لأن في تكفيفه السفر مشقة فلا يلزمه الحضور فجاز لهما التوكيل، ولا فرق في ظاهر الرواية بين الرجل والمرأة البكر والثيّب، واستحسن المتأخرون أن المرأة إذا كانت مخدرة جاز توكيلها بغير رضاء الخصم لعجزها عن الخصومة بسبب الحياء والدهشة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة والصلح عن إقرار تتعلق حقوقه به، من تسليم المبيع ونقد الثمن والخصومة في العيب وغير ذلك، إلا العبد والصبي المحجورين فتجوز عقودهما، وتتعلق الحقوق بموكلهما‏)‏ لأن الوكيل هو العاقد، ولا يفتقر في هذه العقود إلى ذكر الموكل، والعاقد الآخر اعتمد رجوع الحقوق إليه، فلو لم ترجع إليه يتضرر على تقدير كون الموكل مفلسا، أو من لا يقدر على مطالبته واستيفاء الثمن منه وأنه منتف، بخلاف النكاح وأخواته فإنه لا بد من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه فلا ضرر حينئذ، وكذلك الرسول لأنه يضيف العقد إلى مرسله، ولأن الوكيل هو العاقد حقيقة بكلامه، وحكما لعدم إضافة العقد إلى غيره فيكون أصلا في الحقوق، ثم يثبت الملك للموكل خلافة نظرا إلى التوكيل السابق كالعبد يتهب أو يصطاد‏.‏

أما الصبي والعبد فينفذ تصرفهما لأنهما من أهله، حتى لو كانا مأذونين جاز على ما مر في الحجر، إلا أن الحقوق لا تتعلق بهما لأنهما ليسا من أهل التبرعات والتزام العهدة لقصور أهلية الصبي ولحق السيد فيلزم الموكل‏.‏ وعن أبي يوسف لو علم العاقد الآخر أنه محجور عليه بعد العقد فله خيار العيب لاعتقاده رجوع الحقوق إلى العاقد، وقد فاته فيتخير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا سلم المبيع إلى الموكل لا يرده الوكيل بعيب إلا بإذنه‏)‏ لأنه تعلق به حق الموكل وانتقل الملك إليه فصار كما إذا باعه من آخر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وللمشتري أن يمتنع من دفع الثمن إلى الموكل‏)‏ لما بينا أن الحقوق راجعة إلى الوكيل فهو أجنبي من العقد ‏(‏فإن دفعه إليه جاز‏)‏ لأنه حقه، وليس للوكيل أن يطالبه به، إذ لا فائدة في الأخذ منه ثم يدفعه إليه، ولو كان للمشتري عليهما دين أو على الموكل تقع المقاصة بدين الموكل لما بينا أنه حقه، وتقع المقاصة بدين الوكيل لو كان وحده، لأنه يملك الإبراء عنه لكن يضمنه للموكل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكل عقد يضيفه إلى موكله فحقوقه تتعلق بموكله‏:‏ كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد‏)‏ فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها، ولا بدل الخلع، لأن الوكيل سفير، ولهذا لا بد له من ذكر الموكل وإسناد العقد إليه، حتى لو أضاف العقد إلى نفسه كان النكاح واقعا له لا لموكله كالرسول والخلع، والصلح عن دم العمد إسقاط كما يوجد يتلاشى فلا يمكن صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره ‏(‏و‏)‏ على هذا ‏(‏العتق على مال والكتابة والصلح عن إنكار والهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والإقراض والشركة والمضاربة‏)‏ لأن الحكم يثبت في هذه الأشياء بالقبض‏.‏ وأنه يلاقي محلا مملوكا للموكل فكان سفيرا، وكذا لو كان وكيلا من الجانب الآخر لأنه يضيف العقد إلى المالك إلا في الاستقراض فإن التوكيل به باطل، ولا يثبت الملك فيه للموكل بخلاف الرسول‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الجهالة في الوكالة‏]‏

الجهالة ثلاثة أنواع‏:‏ فاحشة، ويسيرة، وبينهما‏.‏ فالأولى جهالة الجنس كالتوكيل بشراء ثوب أو دابة فإنه لا يصح وإن سمى الثمن، لأنه لا يمكن الوكيل امتثال ما وكله به لتفاوته تفاوتا فاحشا‏.‏ والثانية جهالة النوع والصفة كالحمار والفرس وقفيز حنطة وثوب هروي، فإنه يصح وإن لم يقدر الثمن، لأن الوكيل يقدر على تحصيل مقصوده وتتعين الصفة بحال الموكل، واختلاف الصفة لا يوجب اختلاف المقصود، فصار كأنه وكله بشراء ثوب هروي بأي صفة كان وبالثمن المعتاد، وقد صح‏)‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ وكّل حكيم بن حزام بشراء شاة للأضحية‏)‏‏.‏ والثالثة التوكيل بشراء عبد أو جارية أو دار إن سمى الثمن صح وإلا فلا، لأن الجمال منفعة مقصودة من بني آدم، ويختلف في ذلك الهندي والتركي، فإذا سمى الثمن ألحقناه بمجهول النوع، وإن لم يسم ألحقناه بجالة الجنس لأن بالتسمية يصير معلوم النوع عادة، فإن ثمن كل نوع معلوم عادة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن وكل رجلا بشراء شيء ينبغي أن يذكر صفته وجنسه أو مبلغ ثمنه‏)‏ لأن بذلك يصير معلوما فيقدر الوكيل عليه ‏(‏إلا أن يقول له‏:‏ ابتع لي ما رأيت‏)‏ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء اشترى كان مؤتمرا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن وكله بشراء شيء بعينه ليس له أن يشتريه لنفسه‏)‏ لأن الآمر اعتمد عليه في شرائه فيصير كأنه قد خدعه بقبول الوكالة ليشتريه لنفسه وأنه لا يجوز ‏(‏فإن اشتراه بغير النقدين أو بخلاف ما سمى له من جنس الثمن أو وكّل آخر بشرائه وقع الشراء له‏)‏ لأنه خالف أمر الموكل فوقع له، لأن الوكيل بالشراء لا يجوز له أن يشتري إلا بالدراهم والدنانير لأنه المعروف، والمعروف كالمشروط‏.‏ وقال زفر‏:‏ إذا اشتراه بكيلي أو وزني يقع للموكل لأنه شراء من كل وجه لتعلقه بالذمة كالنقدين، بخلاف ما إذا اشتراه بعين لا يثبت في الذمة، لأنه بيع من وجه شراء من وجه‏.‏ ولنا أنه ينصرف إلى المتعارف عند الإطلاق وهو النقدان فيتقيد به، ولو عقد الوكيل الثاني بحضرة الأول لزم الموكل لأنه برأيه فلم يكن مخالفا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن كان بغير عينه فاشتراه فهو له، إلا أن يدفع الثمن من مال الموكل، أو ينوي الشراء له‏)‏ وهذا لا يخلو، أما إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر أو نقد الثمن من مال الآمر فيقع للآمر عملا بالظاهر، وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه عملا بالمعتاد، فإن الشراء وإضافة العقد إلى دراهمه معتاد غير مستنكر شرعا، وإن أضافه إلى مطلق الدراهم فإن نواه للآمر فله، وإن نواه لنفسه فلنفسه، لأن له أن يعمل لنفسه وللآمر، وإن تكاذبا في النية يحكم النقض لأنه دليل وإن توافقا على عدم النية، قال محمد‏:‏ هو للعاقد عملا بالأصل، وقال أبو يوسف‏:‏ يحكم النقد لاحتمال الوجهين والوكيل بشراء شيء بعينه يقع العقد والملك للموكل وإن لم يضف العقد إليه إلا في مسألة، وهو ما إذا قال لعبد غيره‏:‏ اشتر لي نفسك من مولاك، فقال لمولاه‏:‏ بعني نفسي من فلان، فباعه فهو للآمر لأنه يصلح وكيلا عنه في ذلك لأنه أجنبي عن ماليته، وإن وجد به عيبا إن علم به العبد لا يرده، لأن علم الوكيل كعلم الموكل، وإن لم يعلم فالرد للعبد، وإن لم يف من فلان عتق لأن بيع العبد من نفسه إعتاق‏.‏ أمره أن يشتري له كر حنطة من قرية كذا، فالحمل على الآمر لجريان العادة أو العرف بذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والوكيل في الصرف والسلم تعتبر مفارقته لا مفارقة الموكل‏)‏ لما ذكرنا أن الحقوق ترجع إليه، ومراده الوكالة بالإسلام لا بالقبول، فإنه لا يجوز أن يبيع الوكيل في ذمته على أن يكون الثمن لغيره‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن دفع إليه دراهم ليشتري بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها‏)‏ اعتبارا بالعرف ‏(‏وقيل إن كانت كثيرة فعلى الحنطة، وقليلة فعلى الخبز، ومتوسطة فعلى الدقيق‏)‏ اعتبارا بالعرف أيضا، وإن كان في موضع يتعارفون أكل غير الحنطة وخبزها فعلى ما يتعارفونه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن دفع الوكيل الثمن من ماله فله حبس المبيع حتى يقبض الثمن‏)‏ لأنه بمنزلة البائع من الموكل حكما حتى يرده الموكل على الوكيل بالعيب، ولو اختلفا في الثمن تحالفا ‏(‏فإن حبسه وهلك فهو كالمبيع‏)‏ لما قلنا‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ كالرهن لأنه حبسه للاستيفاء بعد أن لم يكن محبوسا وهو معنى الرهن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين مما يباع منه عشرة بدرهم لزم الموكل عشة بنصف درهم‏)‏ وقالا‏:‏ يلزمه العشرون لأنه أمره بالشراء بدرهم بناء على أن سعر اللحم عشرة بدرهم فقد زاده خيرا كما إذا وكله ببيع عبده بألف درهم فباعه بألفين‏.‏

ولأبي حنيفة رحمه الله‏:‏ أن المقصود إنما هو اللحم لا إخراج الدرهم، وقصده تعلق بعشرة أرطال لحم فتبقى الزيادة للوكيل، بخلاف مسألة العبد، لأن المقصود بيعه، والزائد حصل بدل ملكه فيكون له، ولو اشترى من لحم يساوي عشرين رطلا بدرهم فهو مخالف لعدم حصول المقصود وهو السمين وهذا هزيل فلا يلزمه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل وبالنسيئة وبالعرض، ويأخذ الثمن رهنا وكفيلا‏)‏ وقالا‏:‏ لا يجوز إلا بمثل القيمة حالا أو بما يتغابن فيه، ولا يجوز إلا بالأثمان لأن الأمر عند الإطلاق ينصرف إلى المعتاد، كما إذا أمره بشراء الفحم يتقيد بالشتاء وبالجمد بالصيف وغير ذلك، و المتعارف هو ثمن المثل وبالنقدين‏.‏ ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله بمطلق البيع، وقد أتى به فيجوز إلا عند التهمة، على أن البيع بالغبن متعارف عند الحاجة إلى الثمن، وكذلك البيع بالغبن عند كراهة المبيع‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله المنع فيما ذكرا من المسائل، ولأنه بيع من كل وجه حتى يحنث به في قوله لا يبيع، وإنما لا يملكه الوصي والأب مع كونه بيعا، لأن ولايتهما نظرية، ولا نظر في البيع بالغبن‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يصح ضمانه الثمن عن المشتري‏)‏ لأن الحقوق ترجع إليه فيكون مطالبا ومطالبا وأنه محال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والوكيل بالشراء لا يجوز شراؤه إلا بقيمة المثل وزيادة يتغابن فيها‏)‏ لاحتمال التهمة وهو أنه يجوز أنه اشتراه لنفسه ثم وجده، أو غالي الثمن فألحقه بالموكل ولا كذلك في البيع، لأنه لا يجوز أن يبيعه لنفسه فلا تهمة، ولو أنه وكله بشراء شيء بعينه جاز، لأنه لا يجوز أن يشتريه لنفسه لما مر فانتفت التهمة، وكذا الوكيل بالنكاح إذا زوجه بأكثر من مهر المثل جاز على الموكل لانتفاء التهمة لأنه لا يجوز أن يتزوجها، بخلاف الوكيل بمطلق الشراء، وعندهما يتقيد في الكل بثمن المثل ومهر المثل ‏(‏وما لا يتغابن فيه في العروض في العشرة زيادة نصف درهم، وفي الحيوان درهم، وفي العقار درهمين‏)‏ لأن قلة الغبن وكثرته بقلة التصرف وكثرته والتصرف في العروض أكثر، ثم في الحيوان، ثم في العقار‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز‏)‏ وقالا‏:‏ لا يجوز لما فيه من تعييبه بالشركة، ولو أنه لو باع جميعه بهذا القدر جاز عنده فهذا أولى، ولو باع باقيه قبل أن يختصما جاز عندهما، لأن بيع البعض قد يكون وسيلة إلى بيع الباقي بأن لا يجد من يشتريه جملة ‏(‏وفي الشراء يتوقف، فإن اشترى باقيه قبل أن يختصما جاز‏)‏ وقال زفر‏:‏ إذا اشترى نصفه يقع للوكيل بكل حال لأنه صار مخالفا بشراء النصف فيقع له، ويقع الثاني له أيضا‏.‏ ولنا أن شراء الكل قد يتعذر جملة واحدة بأن يكون مشتركا بين جماعة فيشتري شقصا شقصا، فإن اشترى باقيه قبل أن يرد الموكل البيع تبين أنه اشترى البعض ليتوسل به إلى شراء الباقي فلا يكون مخالفا فينفذ على الموكل‏.‏

أمره بالبيع الفاسد فباع جائزا جاز، وقال محمد‏:‏ لا يجوز للمخالفة فإنه أمره ببيع يملك نقضه ولا يزيل ملكه بالعقد، وصار كما إذا أمره بالبيع بشرط الخيار فباعه باتا‏.‏ ولهما أنه أمره بالبيع، وأن يشترط شرطا فاسدا، والأمر بالبيع صحيح وباشتراط شرط فاسد باطل، فصار أمرا بمطلق البيع فينصرف إلى الصحيح، ولا نسلم أن البيع الفاسد يقدر على نقضه مطلقا فإنه لو باع العبد من قريبه وقبضه عتق عليه، وكذا قد يزول الملك بنفس العقد بأن يكون المبيع في يد المشتري‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يعقد الوكيل مع من لا تقبل شهادته له إلا أن يبيعه بأكثر من القيمة‏)‏ وعندهما يجوز بمثل القيمة إلا من عبده ومكاتبه لعدم التهمة إذ الأملاك بينهم منقطعة‏.‏ أما العبد فيقع البيع لنفسه، وكذا المكاتب لثبوت الحق للمولى في كسبه حال الكتابة وحقيقة لعجزه‏.‏ وله أنه موضع تهمة بدليل عدم قبول الشهادة، وموضع التهمة مستثنى من الوكالة، ولأن المنافع بينهم متصلة فشابه البيع من نفسه، وعلى هذا الخلاف الإجارة فإذا كان البيع بأكثر من القيمة لا تهمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وليس لأحد الوكيلين أن يتصرف دون رفيقه إلا في الخصومة‏)‏ لأنه ما رضي إلا برأيهما، واجتماع الرأي له أثر في توفير المصلحة أما ما لا تأثير له في اجتماع الرأي فيه وما لا يمكن الاجتماع عليه يجوز أن ينفرد به أحدهما كالخصومة، فإنه لا يمكن اجتماعهما عليها ‏(‏والطلاق، والعتاق بغير عوض، ورد الوديعة وقضاء الدين‏)‏ لأن اجتماع الرأي لا تأثير له في ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وليس للوكيل أن يوكل إلا بإذن الموكل أو بقوله اعمل برأيك‏)‏ لأنه ما رضي إلا برأيه والناس يتفاوتون في الآراء، فإذا أذن له أو قال اعمل برأيك فقد فوّض إليك الأمر مطلقا ورضي بذلك، فإذا أجاز كان وكيلا عن الموكل الأول لأنه يعمل له ولا ينعزل بعزل الوكيل الأول ولا بموته، وهو نظير القاضي إذا استخلف قاضيا، وقد مر‏.‏ ‏(‏وإن وكل بغير أمره فعقد الثاني بحضرة الأول جاز‏)‏ وقال زفر‏:‏ لا يجوز لأن التوكيل ما صح فصار كما إذا عقد بغيبته‏.‏ ولنا أنه إنما جاز برأيه والموكل راض به، وكذا إذا عقد في غيبة الأول فأجاز، وهكذا كل عقد معاوضة، وما ليس بمعاوضة كالنكاح والطلاق لا يجوز بإجازته، لأنه لا يتوقف على إجازة الوكيل لأنه سفير لا يتعلق به حقوق العقد، بل يتوقف على إجازة الموكل وقد عرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وللموكل عزل وكيله‏)‏ لأن الوكالة حقه فله أن يبطلها، إلا أن يتعلق بها حق الغير كالوكالة المشروطة في بيع الرهن ونحوه، فليس له عزله لما فيه من إبطال حق الغير ‏(‏ويتوقف على علمه‏)‏ اعتبارا بنهي صاحب الشرع، ولأنه لو انعزل بدون علمه يتضرر، لأن الحقوق ترجع إليه فيتصرف في مال الموكل بناء على الوكالة فينقد الثمن ويسلم المبيع فيضمنه، وأنه ضرر به وهو نظير الحجر على المأذون، وكذلك لو عزل الوكيل نفسه لا ينعزل بدون علم الموكل، لأنه عقد تم بهما، وقد تعلق به حق كل واحد منهما، ففي إبطاله بدون علم أحدهما إضرار به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتبطل الوكالة بموت أحدهما وجنونه جنونا مطبقا ولحاقه بدار الحرب مرتدا‏)‏ أما الموت فلإبطال الأهلية ولأن الأمر يبطل بالموت، وكذلك الجنون، وكذلك ملك الموكل يزول بموته إلى الورثة، واللحاق مع الردة موت حكما، ولو جنّ يوما ويفيق يوما لا يبطل لأنه في معنى الإغماء، لأنه عجز يحتمل الزوال كالعجز بالنوم والإغماء‏.‏ وعن أبي يوسف لا ينعزل حتى يجنّ أكثر السنة، لأنه متى دام كذلك لا يزول غالبا فصار كالموت، وعن محمد سنة وهو الصحيح، لأنه إن كان لعلة أو مرض يزول أو يتغير في سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة من حرارة الهواء وبرودته ويبسه ورطوبته، فإذا لم يزل فيها فالظاهر دوامه؛ ولو لحق الموكل أو الوكيل بدار الحرب مرتدا ثم عاد لا تعود الوكالة للحكم ببطلانها‏.‏ وقال محمد‏:‏ تعود كالمريض إذا برأ والمجنون إذا أفاق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا عجز المكاتب أو حجر على المأذون أو افترق الشريكان بطل توكيلهم وإن لم يعلم به الوكيل‏)‏ لأن بهذه العوارض لم يبق للموكل مال وانتقل إلى غيره فيقع تصرف الوكيل في مال الغير بغير أمره فلا يجوز وصار كالموت؛ ولو وكله وقال‏:‏ كلما عزلتك فأنت وكيلي صح ويكون لازما، وطريق عزله أن يقول‏:‏ عزلتك كلما وكلتك؛ وقيل لا ينعزل بذلك، لأن العزل عن الوكالة المعلقة لا يصح، والأصح أن يقول‏:‏ رجعت عن الوكالة المعلقة وعزلتك عن الوكالة المنجزة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا تصرف الموكل فيما وكل به بطلت الوكالة‏)‏ والمراد تصرفا يعجز الوكيل عن البيع لأنه عزل حكما، وذلك كالبيع والهبة مع التسليم والإعتاق والتدبير والكتابة والاستيلاد، وإذا كان تصرفا لا يعجزه لا ينعزل، كما إذا أذن للعبد في التجارة أو رهنه أو آجره، لأنه لا يعجزه عن عقد يوجب الملك للمشتري، ولو وكله ببيع عبد فباعه الموكل بطلت الوكالة ولو باعاه معا‏.‏ قال محمد‏:‏ هو للمشتري من الموكل لأنه باع ملكه فكان أولى‏.‏ وعند أبي يوسف هو بينهما، لأن بيع الوكيل مثل بيع الموكل عنده، ألا ترى أنه لو تقدم بطل ببيع الموكل كما إذا تقدم بيع الموكل بطل بيع الوكيل، وإذا استويا كان بينهما لعدم الأولوية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والوكيل بقبض الدين وكيل بالخصومة فيه‏)‏ خلافا لهما، وبقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة فيها بالإجماع‏.‏ لهما أنه ليس كل من يصلح للقبض يعرف الخصومة ويهتدي إلى المحاكمة، فلا يكون الرضى بالقبض رضا بالخصومة‏.‏

وله أنه وكله بأخذ الدين من ماله، لأن قبض نفس الدين لا يتصور، ولهذا قلنا إن الديون تقضى بأمثالها لأن المقبوض ملك المطلوب حقيقة، وبالقبض يتملكه بدلا عن الدين، فيكون وكيلا في حق التمليك، ولا ذلك إلا بالخصومة وصار كالوكيل بأخذ الشفعة، وثمرته إذا أقام الخصم البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده خلافا لهما‏.‏ أما في العين فهو ناقل لأنها أمانة في يد المطلوب؛ ولو أقام البينة أن الموكل باعه إياها سمعت في منع الوكيل من القبض دون البيع، لأن الوكيل ليس بخصم إلا أنها تضمنت إسقاط حقه من القبض فيقتصر عليه، ونظيره لو وكله بنقل زوجته أو عبده فأقاما البينة على العتق والطلاق سمعت في قصر يده عنهما، ولا يثبت العتق ولا الطلاق لما قلنا، والوكيل بطلب الشفعة والرد بالعيب والقسمة يملك الخصومة، لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا بالخصومة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والوكيل بالخصومة وكيل بالقبض خلافا لزفر‏)‏ لأنه رضي بخصومته لا بقبضه، وليس كل من يصلح للخصومة يؤتمن على القبض‏.‏ ولنا أن المقصود من الخصومة استيفاء الدين فكان المقصود من الوكالة الاستيفاء فيملكه ‏(‏والفتوى على قول زفر‏)‏ لفساد الزمان وكثرة ظهور الخيانة في الناس، والوكيل بالتقاضي يملك القبض بالإجماع، لأنه لا فائدة للتقاضي بدون القبض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو أقر الوكيل على موكله عند القاضي نفذ وإلا فلا‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ أولا لا ينفذ أصلا وهو قول زفر، ثم رجع وقال‏:‏ يجوز في مجلس القاضي وغيره‏.‏ لزفر أن الإقرار يضاد الخصومة، والشيء لا يتناول ضده كما لا يتناول الصلح والإبراء‏.‏ ولأبي يوسف أن الوكيل قائم مقام الموكل فيجوز إقراره عند القاضي وغيره كالموكل‏.‏ ولهما أنه أقامه مقامه في جواب هو خصومة فيتقيد بمجلس القاضي، فإذا أقر في غير مجلسه فقد أقر في حالة ليس وكيلا فيها‏.‏ وجواب زفر أنه وكله بالجواب، والجواب يكون بالإنكار ويكون بالإقرار، وكما يملك أحدهما بمطلق الوكالة يملك الآخر فصار كما إذا أقر أنه قبضه بنفسه، والإقرار في مجلس القاضي خصومة مجازا، لأن الخصومة سبب له، وتبطل وكالته عند من قال لا يصح إقراره، لأن الإقرار تضمن إبطال حق الموكل ولا يملكه، وإبطال حقه في الخصومة وأنه يملكه فيبطل، والأب والوصي لا يصح إقرارهما على الصغير بالإجماع، لأنه لا يصح إقرار الصغير فكذا نائبه، ولأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه‏.‏ وذكر محمد رحمه الله في الزيادات لو وكله على أن لا يقر جاز من غير فصل‏.‏ وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز إن كان طالبا، لأنه لا يجبر على الخصومة فيوكل بما يشاء، وإن كان مطلوبا لا يجوز لأنه يجبر على الخصومة فلا يوكل بما فيه إضرار بالطالب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه وصدقه الغريم أمر بدفعه إليه‏)‏ لأنه إقرار على نفسه، لأن ما يقبضه إنما يقبضه من ماله لما بينا أن الديون تقضى بأمثالها ‏(‏فإن جاء الغائب فإن صدقه وإلا دفع إليه ثانيا‏)‏ لأنه لما أنكر الوكالة لم يثبت الاستيفاء ‏(‏ورجع على الوكيل إن كان في يده‏)‏ لأنه لم يحصل غرضه بالدفع وهو براءة ذمته من الديون ‏(‏وإن كان هالكا لا يرجع‏)‏ لأنه لما صدقه في الوكالة فقد اعترف أنه قبضه بحق وأن الطالب ظالم له‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يكون دفعه إليه ولم يصدقه‏)‏ لأنه دفعه رجاء الإجازة، فإذا لم يحصل له ذلك رجع عليه‏.‏ وكذلك إن أعطاه مع تكذيبه إياه‏.‏ وكذلك إن أعطاه مع تصديقه وقد ضمنه عند الدفع‏:‏ أي أخذ منه كفيلا بذلك، لأن المأخوذ ثانيا مضمون على الوكيل في غرضهما فيضمنه، وفي جميع هذه الوجوه ليس للدافع استرداد ما دفع ما لم يحضر الغائب، لأنه صار حقا للغائب قطعا أو محتملا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ادعى أنه وكيله في قبض الوديعة لم يؤمر بالدفع إليه وإن صدقه‏)‏ لأنها مال الغير فلا يصدق عليه فلو دفعها ضمن ‏(‏ولو قال‏:‏ مات المودع وتركها ميراثا له وصدقه أمر بالدفع إليه‏)‏ لأنه لما صدقه على الموت فقد انتقل ماله إلى وارثه، فإذا صدقه أنه الوارث لا وارث له غيره تعين مالكا فيؤمر بالدفع إليه ‏(‏ولو ادعى الشراء من المودع وصدقه لم يدفعها إليه‏)‏ لأنه مهما كان حيا فملكه باق فلا يصدقان عليه في انتقاله بالبيع ولا بغيره‏.‏

كتاب الكفالة

‏(‏وهي‏)‏ في اللغة‏:‏ الضم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكفلها زكريا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ أي ضمها إلى نفسه، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة‏)‏ أي الذي يضمه إليه في التربية، ويسمى النصيب كفلا لأن صاحبه يضمه إليه‏.‏ وفي الشرع ‏(‏ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة‏)‏ هو الصحيح، ولهذا يبرأ الكفيل ببراءة الأصيل لعدم بقاء المطالبة، ولا يبرأ الأصيل ببراءة الكفيل لبقاء الدين في ذمته، وهي عقد وثيقة وغرامة شرعت لدفع الحاجة، وهو وصول المكفول له إلى إحياء حقه، وأكثر ما يكون أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها غرامة دل على شرعيتها قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الزعيم غارم‏)‏ أي الكفيل ضامن، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ والناس يتكفلون فأقرهم عليه، وعليه الناس من لدن الصدر الأول إلى يومنا هذا من غير نكير‏.‏ وركنها قول الكفيل‏:‏ كفلت لك بمالك على فلان، وقول المكفول له‏:‏ قبلت وقال أبو يوسف‏:‏ القبول ليس بشرط بناء على أنها التزام مطالبة للحال لا غير‏.‏ وعندهما المطالبة للحال وإيجاب الملك في المؤدى عند الأداء على ما يأتي في أثناء المسائل، وشرطها‏:‏ كون المكفول به مضمونا على الأصيل مقدور التسليم للكفيل ليصح الالتزام بالمطالبة ويفيد فائدتها، وأن يكون الدين صحيحا حتى لا تصح الكفالة ببدل الكتابة، لأن المولى لا يستوجب على عبده شيئا، وإنما وجب ضرورة صحة الكتابة نظرا للعبد ليتوصل به إلى العتق‏.‏ وحكمها‏:‏ صيرورة ذمة الكفيل مضمومة إلى ذمة الأصيل في حق المطالبة دون أصل الدين لما مر، ولا يلزم من لزوم المطالبة على الكفيل وجوب الدين عليه، ألا ترى أن الوكيل مطالب بالثمن وهو على الموكل حتى لو أبرأ البائع الموكل عن الثمن جاز وسقطت المطالبة عن الوكيل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تصح إلا ممن يملك التبرع‏)‏ لأنه التزام بغير عوض فكان تبرعا ‏(‏وتجوز بالنفس والمال‏)‏ لما روينا وذكرنا من الحاجة والإجماع ولأنه قادر على التسليم‏.‏ أما المال فلولايته على مال نفسه‏.‏ وأما النفس بأن يعلم الطالب بمكانه ويخلي بينهما وبأعوان السلطان والقاضي فيصح دفعا للحاجة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتنعقد بالنفس بقوله تكفلت بنفسه أو برقبته وبكل عضو يعبر به عن البدن‏)‏ لأنه صريح بالكفالة بالنفس ‏(‏وبالجزء الشائع كالخمس والعشر‏)‏ لأن النفس لا تتجزئ، فذكر البعض ذكر الكل ‏(‏وبقوله‏:‏ ضمنته‏)‏ لأنه معنى الكفالة ‏(‏وبقوله‏:‏ عليّ، وإليّ‏)‏ لأنهما بمعنى الإيجاب، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من ترك كلا أو عيالا فإليّ‏)‏ أي عليّ‏)‏ ومات رجل وعليه ديناران فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ من الصلاة عليه، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ هما عليّ، فصلى عليه‏)‏ ‏(‏و‏)‏ بقوله‏:‏ ‏(‏أنا زعيم‏)‏ للنص ‏(‏أو قبيل‏)‏ لأنه بمعنى الكفيل لغة وعرفا، وكذا قوله‏:‏ أنا ضمين، أو لك عندي هذا الرجل، أو عليّ أن أوفيك به، أو أن ألقاك به، لأن ذلك يؤدي معنى الكفالة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والواجب إحضاره وتسليمه في مكان يقدر على محاكمته‏)‏ ليفيد تسليمه ‏(‏فإذا فعل ذلك برئ‏)‏ لأنه أتى بما التزمه وحصل مقصود المكفول له؛ ولو سلمه في برية لا يبرأ لعدم

الفائدة فإنه لا يقدر على محاكمته، وكذلك في السواد لأنه لا حاكم بها‏:‏ ولو سلمه في المصر أو في السوق برئ لقدرته عليه بأعوان القاضي والمسلمين؛ وقيل لا يبرأ في زماننا لمعاونتهم على منعه منه عادة ‏(‏ولو سلمه في مصر آخر برئ‏)‏ لقدرته على مخاصمته فيه، وقال‏:‏ لا يبرأ لأن شهوده قد لا يكونون فيه، قلنا‏:‏ وقد يكونون فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن شرط تسليمه في وقت معين لزمه إحضاره فيه إذا طلبه منه‏)‏ إلزاما له بما التزم ‏(‏فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم‏)‏ لأنه صار ظالما بمنعه الحق، وقيل لا يحبس أول مرة لأنه ما ظهر ظلمه؛ وهذا إذا كان المكفول به حاضرا؛ فلو كان غائبا أمهله الحاكم مدة ذهابه وإيابه ‏(‏فإذا مضت المدة ولم يحضره حبسه‏)‏ لامتناعه من إيفاء الحق ‏(‏وإذا حبسه وثبت عند القاضي عجزه عن إحضاره خلى سبيله‏)‏ ويسلمه إلى الذي حبسه، وإن شاء لازمه إلا أن يكون في ملازمته تفويت قوته وقوت عياله فيأخذ منه كفيلا بنفسه ويخليه ‏(‏وإذا لم يعلم مكانه لا يطالب به‏)‏ لعجزه عن إحضاره فصار كالموت، إلا أن في الموت تبطل الكفالة أصلا للتيقن بالعجز، وهنا لا لاحتمال القدرة بالعلم بمكانه، ولو ارتد المكفول به ولحق بدار الحرب إن علم القاضي أنه يمكنه دخول دار الحرب وإحضاره فهو كالغيبة المعلومة، وإن كان لا يمكنه فكالغيبة المجهولة، ولا تبطل الكفالة لأنه مطالب بالتوبة والرجوع ممكن، فيمكن الكفيل إحضاره بعد ردته كالغيبة المجهولة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتبطل بموت الكفيل والمكفول به دون المكفول له‏)‏ أما الكفيل فلعجزه، والورثة لم يتكفلوه وإنما يخلفونه فيما له لا فيما عليه‏.‏ وأما المكفول به فلما مر، بخلاف المكفول له، لأن الكفيل غير عاجز والورثة يخلفون المكفول له في المطالبة لأنه حقه، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ترك مالا أو حقا فلورثته‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن تكفل به إلى شهر فسلمه قبل الشهر برأ‏)‏ لتعجيل الدين المؤجل وهذا لأن التأجيل حقه فله إسقاطه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن قال‏:‏ إن لم أوفك به فعلي الألف التي عليه فلم يوف به فعليه الألف‏)‏ لصحة التعليق ووجود الشرط ‏(‏والكفالة باقية‏)‏ لأنه لا منافاة بين الكفالتين، ولاحتمال أن يكون عليه حق آخر غير الألف؛ ولو قال الطالب‏:‏ لا حق لي قبل المكفول به فعلى الكفيل تسليمه لاحتمال أنه وصي أو وكيل، ولو أخذ منه كفيلا آخر لم يبرأ الأول لعدم المنافاة، وإذا سلمه الكفيل إليه برأ، وإن لم يقبله الطالب كإيفاء الدين، وكذا إذا سلمه وكيله أو رسوله لقيامهما مقامه، وكذا إذا سلم المكفول به نفسه عن كفالته لأن الحق عليه وهو مطالب بالخصومة فله الدفع عنه كالمكفول بالمال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والكفالة بالمال جائزة إذا كان دينا صحيحا حتى لا تصح ببدل الكتابة والسعاية والأمانات والحدود والقصاص‏)‏ لما بيناه في أول الكتاب، وسواء كان المكفول به معلوما أو مجهولا كقوله‏:‏ تكفلت بمالك عليه، أو بما يدركك، لأن مبناها على التوسع فتحتمل فيها هذه الجهالة اليسيرة ‏(‏وإذا صحت الكفالة فالمكفول له، إن شاء طالب الكفيل، وإن شاء طالب الأصيل‏)‏ لما بينا من الضم، وله مطالبتهما جمعا وتفريقا ليتحقق معنى الضم، بخلاف الغصب إذا اختار المالك تضمين أحد الغاصبين ليس له مطالبة الآخر، لأنه لما اختار تضمينه فقد ملكه العين، فليس له أن يملكها للآخر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو شرط عدم مطالبة الأصيل فهي حوالة‏)‏ لوجود معناها ‏(‏كما إذا شرط في الحوالة مطالبة المحيل تكون كفالة‏)‏ لوجود معنى الكفالة والعبرة للمعاني‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجوز بأمر المكفول عنه وبغير أمره‏)‏ لأنه إلزم على نفسه ليس على غيره فيه ضرر ‏(‏فإن كانت بأمره فأدى رجع عليه‏)‏ لأنه قضى دينه بأمره ‏(‏وإن كانت بغير أمره لم يرجع عليه‏)‏ لأنه متبرع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا طولب الكفيل ولوزم طالب المكفول عنه ولازمه‏)‏ ويقول له أد إليه، ولا يقول له أدّ إليّ، وكذا يحبسه إذا حبسه، لأن ما لحقه بسببه فيأخذه بمثله، وليس له مطالبته قبل ذلك، لأنه ما لزمه بسببه شيء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أدى الأصيل أو أبرأه رب الدين برأ الكفيل‏)‏ لأنه تبع ولأن الكفالة بالدين ولا دين محال ‏(‏وإن أبرئ الكفيل لم يبرأ الأصيل‏)‏ لأن الدين على الأصيل، وبقاؤه عليه بدون مطالبة الكفيل جائز ‏(‏وإن أخر عن الأصيل تأخر عن الكفيل وبالعكس لا‏)‏ لأنه إبراء مؤقت فيعتبر بالإبراء المطلق؛ فإن صالح الكفيل رب الدين من الألف على خمسمائة برئ هو والأصيل، لأنه لما أضافه إلى الدين وهو على الأصيل برئ الأصيل فيبرأ الكفيل، ثم يرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره، ولو صالح بخلاف جنس الدين رجع بجميع الألف لأنه مبادلة، ولو صالحه عما استوجب بالكفالة لا يبرأ الأصيل، لأنه إبراء له عن المطالبة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن قال الطالب للكفيل برئت إلي من المال رجع به على الأصيل‏)‏ لأنه أضاف البراءة إلى فعل المطلوب ولا يملك ذلك إلا بالأداء فيرجع ‏(‏وإن قال‏:‏ أبرأتك لم يرجع‏)‏ لأنه إسقاط حتى لا تعلق له بغيره؛ ولو قال‏:‏ برئت رجع عند أبي يوسف، لأنها براءة ابتداؤها من المطلوب وذلك بالإيفاء، وقال محمد‏:‏ لا يرجع لأنه يحتمل الوجهين فلا يرجع بالشك، وهذا كله إذا غاب الطالب أما إذا كان حاضرا يرجع إليه لأنه هو المجمل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يصح تعليق البراءة منها بشرط‏)‏ كما في سائر البراءات؛ وقيل يجوز لأن الكفيل إنما عليه المطالبة ولهذا لا يرتد إبراؤه بالرد، بخلاف سائر الإبراءات فإنها تمليك فلا تصح مع التعليق‏.‏ وبخلاف براءة الأصيل لأنها تمليك حتى ترتد بالرد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها كالمقبوض على سوم الشراء والمغصوب والمبيع فاسدا‏)‏ لأنه يجب تسليم عينه حال بقائه، وقيمته حال هلاكه، فكان مقدور التسليم فيصح ‏(‏ولا تصح بالمضمونة بغيرها كالمبيع والمرهون‏)‏ لأنه لو هلك لا يجب شيء بل ينفسخ البيع ويسقط الدين فلهذا لا يصح، وقيل يصح وهو الأصح، وتبطل بالهلاك للقدرة قبل الهلاك والعجز بعده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تصح إلا بقبول المكفول له في المجلس‏)‏ وعن أبي يوسف روايتان‏:‏ في رواية‏:‏ يتوقف على إجازته كسائر تصرفات الفضولي‏.‏ وفي رواية‏:‏ يجوز مطلقا لأنه التزام لا ضرر فيه على الطالب فيستبد الكفيل به، وفيه نفع للطالب لانضمام ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة‏.‏ ولهما أنه تمليك المطالبة فيشترط فيه القبول في المجلس كما في سائر التمليكات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا إذا قال المريض لوارثه تكفل بما عليّ من الدين، فتكفل والغريم غائب فيصح‏)‏ ثم قيل هو وصية حتى لا تصح إذا لم يكن له مال، وقيل تصح لحاجته إلى إبراء ذمته فقام مقام الطالب، وفيه نفع للطالب‏.‏ ‏(‏ولو قال‏)‏ ذلك ‏(‏لأجنبي فيه اختلاف المشايخ‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تصح الكفالة عن الميت المفلس‏)‏ وقالا‏:‏ تصح لأنه دين ثابت وجب للطالب ولم يسقطه فلا يسقط بالموت‏.‏ ألا ترى أنه لو كان له مال أو كان كفيلا به لا يسقط ‏؟‏ وكذا لو تبرع إنسان به صح، ولو سقط بالموت لما ثبتت هذه الأحكام، وله أنه يسقط بموته لأنه عبارة عن المطالبة وهي فعل، ولهذا توصف بالوجوب، إلا أنه يؤول إلى المال وقد عجز بنفسه وخلفه فيسقط ضرورة فوات عاقبة الاستيفاء‏.‏ أما إذا كان له مال أو به كفيل فهو قادر بخلفه، ولأنه يفضي إلى الأداء فلا تفوت العاقبة، و التبرع لا يعتمد بقاء الدين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز تعليق الكفالة بشرط ملائم كشرط وجوب الحق، وهو قوله‏:‏ ما بايعت فلانا فعلي، أو ما ذاب لك عليه فعلي، أو ما غصبك فعلي، أو بشرط إمكان الاستيفاء كقوله‏:‏ إن قدم فلان فعلي وهو مكفول عنه، أو بشرط تعذر الاستيفاء كقوله‏:‏ إن غاب فعلي‏)‏

والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زيعم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 72‏]‏ والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك، وأنه في معنى ما ذكرنا من الشروط ‏(‏ولا يجوز بمجرد الشرط كقوله‏:‏ إن هبت الريح أو جاء المطر‏)‏ لأنها جهالة فاحشة ‏(‏فلو علهما أجلا بأن قال‏:‏ كفلته إلى مجيء المطر أو إلى هبوب الريح لا يصح‏)‏ الأجل ‏(‏ويجب المال حالا‏)‏ لأن الكفالة لاتبطل بالشروط الفاسدة كالنكاح والطلاق؛ وشرط الخيار في الكفالة جائز، وهي أقبل للخيار من البيع حتى يقبل الخيار أكثر من ثلاثة أيام، لأنه لما صح تعليقه بالشرط فلأن يصح بشرط الخيار فيه أولى؛ فلو أقر بكفالة مؤجلة لزمته الكفالة، ولا يصدق في الأجل إلا بتصديق الطالب كما في الإقرار بالدين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن قال‏:‏ تكلفت بما لك عليه فقامت البينة بشيء لزمه‏)‏ لأن الثابت بالبينة كالمعاين حكما ‏(‏وإن لم تكن له بينة فالقول الكفيل‏)‏ لأنه ينكر الزيادة ‏(‏ولا يسمع قول الأصيل عليه‏)‏ لأنه إقرار على الغير ويلزمه في حق نفسه لما عرف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تصح الكفالة بالحمل على دابة بعينها، وتصح بغير عينها‏)‏ لأنه مقدور له على أي دابة شاء، بخلاف المعينة، لأنها لو ماتت عجز عن ذلك، وكذا لو تكفل بخدمة عبد بعينه أو بخياطة خياط بيده، لأن فعله لا يقوم مقام فعل غيره، فإن تكفل بتسليم العبد أو الخياط أو بفعل الخياطة جاز لأنه مقدور له، فإن المستحق مطلق الخياطة، فإي خياطة وجدت حصل المكفول به، ولو ضمن لامرأة عن زوجها بنفقة كل شهر جاز، وليس له الرجوع عن الضمان في رأس الشهر؛ ولو ضمن أجرة كل شهر في الإجارة فله أن يرجع في رأس الشهر، والفرق أن السبب في النفقة لم يتجدد عن رأس الشهر بل تجب في الشهر كلها بسبب واحد، وسبب الأجرة في الإجارة يتجدد في كل شهر لتجدد العقد، فله أن يرجع عن الكفالة المستقبلة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏عليهما دين، وكل واحد منهما كفيل عن الآخر، فما أداه أحدهما لم يرجع على صاحبه حتى يزيد على النصف فيرجع بالزيادة‏)‏ لأنه أصيل في النصف كفيل في النصف،

والكفالة تبع فتقع عن الأصيل إذ هو الأولى والأهم، ثم ما يؤديه بعد ذلك فهو عن الكفالة لتعينها فيرجع به لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن تكفلا عن رجل وكل واحد منهما كفيل عن الآخر، فما أداه أحدهما رجع بنصفه عن الآخر‏)‏ لأن ما يلزم كل واحد منهما إنما لزمه بالكفالة لأنه كفل عن شريكه بالجميع وعن الأصيل بالجميع، فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما لعدم الأولوية، إذ الكل كفالة، بخلاف المسألة الأولى ثم يرجعان على الأصيل، لأنهما أديا عنه بأمره أحدهما بنفسه والآخر بنائبه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ضمن عن رجل خراجه وقسمته ونوائبه جاز إن كانت النوائب بحق، ككري النهر، وأجرة الحارس، وتجهيز الجيش، وفداء الأسارى‏)‏ أما الخراج فلأنه دين مطالب به يمكن استيفاؤه فيصح‏:‏ وأما ما ذكر من النوائب فقد صارت كالدين‏.‏ وأما القسمة فهي حصة من النوائب التي صارت معلومة لهم موظفة عليهم كالديون، وباقي النوائب ما ليس بمعلوم ‏(‏وإن لم تكن بحق كالجبايات قالوا‏:‏ تصح في زماننا‏)‏ لأنها صارت كالديون حتى قالوا‏:‏ لو أخذ من المزارع جبرا له أن يرجع على المالك‏.‏ والكفالة بالدرك جائزة، وهو التزام تسليم الثمن عند استحقاق المبيع، لأن المقصود تأكيد أحكام البيع وتقريرها، ولو استحق المبيع لم يؤخذ الكفيل حتى يقضي على البائع، لأن البيع لا ينتقض إلا بالقضاء، فلعل المستحق يجيزه فلا يلزم البائع نقد الثمن فلا يجب على الكفيل، ولو قضي على المشتري بالاستحقاق فهو قضاء على البائع لأنه خصم عنه، فيؤخذ الكفيل؛ والضمان بالعهدة باطل، لأن العهدة تحتمل الدرك وغيره فكان مجهولا‏.‏ أما الدرك فيستعمل في ضمان الاستحقاق‏.‏ وعن أبي يوسف أن العهدة كالدرك، لأنه ترجح استعمالها في ضمان الدرك عادة وعرفا‏.‏

تم الجزء الثاني من الاختيار لتعليل المختار

ويليه‏:‏ الجزء الثالث، وأوله‏:‏ كتاب الحوالة‏.‏